فصل: تفسير الآيات رقم (5- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه‏}‏ لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة‏.‏

‏{‏فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ‏}‏ ثقة بسلامته وسروراً بنجاته، لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج، والشمال من دلائل الغم، قال الشاعر‏:‏

أبيني أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني *** فأفرح أم صيرتني من شِمالِك

وفي قوله «هاؤمُ» ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بمعنى هاكم اقرؤوا كتابيه فأبدلت الهمزة من الكاف، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بمعنى هلموا اقرؤوا كتابيه، قال الكسائي‏:‏ العرب تقول للواحد هاءَ وللاثنين هاؤما وللثلاثة هاؤم‏.‏

الثالث‏:‏ أنها كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح روي أن أعرابياً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فأجابه هاؤم بطول صوته‏.‏

والهاء من «كتابيه» ونظائرها موضوعة للمبالغة، وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد‏.‏

‏{‏إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَهْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي علمت، قال الضحاك‏:‏ كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك، وقال مجاهد‏:‏ ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك‏.‏

الثاني‏:‏ ما قاله الحسن في هذه الآية، أن المؤمن أحْسن بربه الظن، فأحسن العمل، وأن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل‏.‏

وفي الحساب ها هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في البعث‏.‏

الثاني‏:‏ في الجزاء‏.‏

‏{‏فهو في عِيشَةٍ راضيةٍ‏}‏ بمعنى مَرْضيّة، قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري يرفعانه‏:‏ إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً، ويصحّون فلا يمرضون أبداً، ويتنعمون فلا يرون بؤساً أبداً، ويشبّون فلا يهرمون أبداً‏.‏

‏{‏في جنة عالية‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ رفيعة المكان‏.‏

الثاني‏:‏ عظيمة في النفوس‏.‏

‏{‏قطوفها دانيةٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ دانية من الأيدي يتناولها القائم والقاعد‏.‏

الثاني‏:‏ دانية الإدراك لا يتأخر حملها ولا نضجها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 37‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وأمّا من أُوتي كتابه بشماله‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان يقول ذلك راجياً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان مستوراً فافتضح، ومن عادة العرب أن تفرق بين القبول والرد وبين الكرامة والهوان، باليمين والشمال، فتجعل اليمين بشيراً بالقبول والكرامة، وتجعل الشمال نذيراً بالرد والهوان‏.‏

‏{‏ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لما شاهد من كثرة سيئاته وكان يظنها قليلة، لأنه أحصاه اللَّه ونسوه‏.‏

الثاني‏:‏ لما رأى فيه من عظيم عذابه وأليم عقابه‏.‏

‏{‏يَا لَيْتَها كانت القاضيةَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني موتاً لا حياة فيه بعدها، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه تمنى أن يموت في الحال، ولم يكن في الدنيا أكره إليه من الموت، قاله قتادة‏.‏

‏{‏ما أغْنَى عَنيِّ مالِيَهْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كثرة ماله في الدنيا لم يمنع عنه في الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ لأن رغبته في زينة الدنيا وكثرة المال هو الذي ألهاه عن الآخرة‏.‏ ‏{‏هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه ضللت عن حُجّتي، قاله مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ سلطانه الذي تسلط به على بدنه حتى أقدم به على معصيته، وهذا معنى قول قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كان في الدنيا مطاعاً في أتباعه، عزيزاً في امتناعه، وهذا معنى قول الربيع بن أنس‏.‏

وحكي أن هذا في أبي جهل بن هشام، وذكر الضحاك أنها نزلت في الأسود ابن عبد الأسد‏.‏

‏{‏فليس له اليومَ ها هنا حَميمٌ‏}‏ الحميم‏:‏ القريب، ومعناه ليس له قريب ينفعه ويدفع عنه كما كان يفعل معه في الدنيا‏.‏

‏{‏ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلين‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه غسالة أطرافهم، قاله يحيى بن سلام، قال الأخفش‏:‏

هو فعلين من الغسل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه صديد أهل النار، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه شجرة في النار هي أخبث طعامهم، قاله الربيع بن أنس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الحار الذي قد اشتد نضجه، بلغة أزد شنوءة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 43‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فلا أُقْسِمُ بما تُبصِرون‏}‏ قال مقاتل‏:‏ سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال‏:‏

إن محمداً ساحر، وقال أبو جهل‏:‏ إنه شاعر، وقال عقبة بن معيط‏:‏ إنه كاهن فقال اللَّه تعالى قسماً على كذبهم «فلا أُقْسِم» أي أقسم، و«لا» صلة زائدة‏.‏

‏{‏وَما لا تُبْصِرونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون من الخلق، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رد لكلام سبق أي ليس الأمر كما يقوله المشركون‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ بما تعلمون وما لا تعلمون، مبالغة في عموم القسم‏.‏

‏{‏إنه لَقْولُ رسولٍ كريمٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جبريل، قاله الكلبي ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن قتيبة‏:‏ وليس القرآن من قول الرسول، إنما هو من قول اللَّه وإبلاغ الرسول، فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 52‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل‏}‏ أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب، حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏لأخْذنا منه باليمين‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لأخذنا منه قوّته كلها، قاله الربيع‏.‏

الثاني‏:‏ لأخذنا منه بالحق، قاله السدي والحكم، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ *** تَلَقّاها عَرابةُ باليَمينِ

أي بالاستحقاق‏.‏

الثالث‏:‏ لأخذنا منه بالقدرة، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ لقطعنا يده اليمنى، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ معناه لأخذنا بيمينه إذلالاً له واستخفافاً به، كما يقال لما يراد به الهوان، خذوا بيده، حكاه أبو جعفر الطبري‏.‏

‏{‏ثم لَقَطَعْنا مِنه الوَتينَ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نياط القلب ويسمى حبل القلب، وهو الذي القلب معلق به، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه القلب ومراقّه وما يليه، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الحبل الذي في الظهر، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عرق بين العلباء والحلقوم، قاله الكلبي‏.‏

وفي الإشارة إلى قطع ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إرادة لقتله وتلفه، كما قال الشاعر‏:‏

إذا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رحْلي *** عرابة فاشربي بدَمِ الوَتينِ

الثاني‏:‏ ما قاله عكرمة أن الوَتين إذا قطع لا إن جاع عَرَق، ولا إن شبع عَرَقَ‏.‏

‏{‏وإنه لتَذْكرةٌ للمُتّقِينَ‏}‏ يعني القرآن، وفي التذكرة أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ رحمة‏.‏

الثاني‏:‏ ثَبات‏.‏

الثالث‏:‏ موعظة‏.‏

الرابع‏:‏ نجاة‏.‏

‏{‏وإنّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مُكذِّبينَ‏}‏ قال الربيع‏:‏ يعني بالقرآن‏.‏

‏{‏وإنّه‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏لَحسْرةٌ على الكافرين‏}‏ يعني ندامة يوم القيامة‏.‏

ويحتمل وجهاً ثانياً‏:‏ أن يزيد حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم أن يأتوا بمثله‏.‏

‏{‏وإنّه لَحقُّ اليقينِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي حقاً ويقيناً ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ يعني القرآن عند جميع الخلق أنه حق، قال قتادة‏:‏ إلا أن المؤمن أيقن به في الدنيا فنفعه، والكافر أيقن به في الآخرة فلم ينفعه‏.‏

‏{‏فَسَبِّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فصلِّ لربك، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فنزهه بلسانك عن كل قبيح‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأَل سائلٌ‏}‏ قرأه الجمهور بهذين الحرفين في سأل سائل، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه استخبر مستخبر عن العذاب متى يقع، على التكذيب‏.‏

الثاني‏:‏ دعا داع أن يقع البلاء بهم على وجه الاستهزاء، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ طلب طالب‏.‏

‏{‏بعذابٍ واقعٍ‏}‏ وفي هذا الطالب ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهالنضر بن الحارث، وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر، وقد سأل ذلك في قوله ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أبو جهل‏:‏ وهو القائل لذلك، قاله ربيع بن أبي حمزة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قول جماعة من قريش‏.‏

وفي هذا العذاب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العذاب في الآخرة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت بمكة وعذابه يوم بدر بالقتل والأسر، قاله السدي‏.‏

وقرأ نافع وزيد بن أسلم وابنه «سأل سايل» غير مهموز، وسايل واد في جهنم، وسمي بذلك لأنه يسيل بالعذاب‏.‏

‏{‏مِن اللَّهِ ذي المعارج‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ذي الدرجات، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ذي الفواضل والنعم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ذي العظمة والعلاء‏.‏

الرابع‏:‏ ذي الملائكة، لأنهم كانوا يعرجون إليه، قاله قتيبة‏.‏

الخامس‏:‏ أنها معارج السماء، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏تَعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه‏}‏ أي تصعد، وفي الروح ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه روح الميت حين يقبض، قاله قَبيصة بن ذؤيب، يرفعه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جبريل، كما قال تعالى‏:‏ «نزل به الروح الأمين»‏.‏

الثالث‏:‏ أنه خلق من خلق اللَّه كهيئة الناس وليس بالناس، قاله أبو صالح‏.‏

‏{‏في يوم كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يوم القيامة، قاله محمد بن كعب والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنها مدة الدنيا، مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلا اللَّه، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مقدار مدة الحساب في عرف الخلق أنه لو تولى بعضهم محاسبة بعض لكان مدة حسابهم خمسين ألف سنة، إلا أن اللَّه تعالى يتولاه في أسرع مدة‏.‏

وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يحاسبهم اللَّه بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب، وأسرع الحاسبين»‏.‏

‏{‏فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الصبر الذي ليس فيه جزع، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الانتظار من غير استعجال، قاله ابن بحر‏.‏

الرابع‏:‏ أنه المجاملة في الظاهر، قاله الحسن‏.‏

وفيما أُمر بالصبر عليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أُمر بالصبر على ما قذفه المشركون من أنه مجنون وأنه ساحر وأنه شاعر، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أُمر بالصبر على كفرهم، وذلك قبل أن يفرض جهادهم، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏إنهم يَرَوْنه بعيداً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه البعث في القيامة‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب النار‏.‏

وفي المراد بالبعيد وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مستحيل غير كائن‏.‏

الثاني‏:‏ استبعاد منهم للآخرة‏.‏

‏{‏ونراه قريباً‏}‏ أي كائناً، لأن ما هو كائن قريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 18‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يومَ تكونُ السّماءُ كالمُهْلِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كدرديّ الزيت، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ كمذاب الرصاص والنحاس والفضلة، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ كقيح من دم، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ‏}‏ يعني كالصوف المصبوغ، والمعنى أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع‏.‏

‏{‏يُبْصّرُونَهم‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يبصر بعضهم بعضاً فيتعارفون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن المؤمنين يبصرون الكافرين، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الكافرين يبصرون الذين أضلوهم في النار، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه يبصر المظلوم ظالمه، والمقتول قاتله‏.‏

‏{‏يَوَدّ المجْرِمُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يحب‏.‏

الثاني‏:‏ يتمنى، والمجرم هو الكافر‏.‏

‏{‏لو يَفْتَدِي مِن عَذابِ يومِئذ‏}‏ يعني يفتدي من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه، فلا يقدر‏.‏

ثم ذكرهم فقال‏:‏ ‏{‏ببنيه‏}‏‏.‏

‏{‏وصاحبته‏}‏ يعني زوجته‏:‏ ‏{‏وأخيه‏}‏‏.‏

‏{‏وفصيلته‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عشيرته التي تنصره، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها أمه التي تربيه، قاله مالك، وقال أبو عبيدة‏:‏ الفصيلة دون القبيلة‏.‏

‏{‏التي تؤويه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ التي يأوي إليها في نسبه، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ يأوي إليها في خوفه‏.‏

‏{‏كلا إنها لَظَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها اسم من أسماء جهنم، سميت بذلك لأنها التي تتلظى، وهو اشتداد حرها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اسم الدرك الثامن في جهنم، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏نَزّاعة للشّوَى‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها أطراف اليدين والرجلين، قاله أبو صالح، قال الشاعر‏:‏

إذا نَظَرْتَ عَرَفْت الفخر منها *** وعَيْنيها ولم تعْرِفْ شَواها‏.‏

الثاني‏:‏ قال الضحاك‏:‏ هي جهنم تفري اللحم والجلد عن العظم، وقال مجاهد‏:‏ جلدة الرأس ومنه قول الأعشى‏:‏

قالت قُتَيْلَةُ ما لَه *** قد جُلِّلَتْ شيْباً شَواتهُ‏.‏

الثالث‏:‏ أنه العصب والعقب، قاله ابن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ أنه مكارم وجهه، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أنه اللحم والجلد الذي على العظم، لأن النار تشويه، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏تَدْعو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلّى‏}‏ وفي دعائها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها تدعوهم بأسمائهم فتقول للكافر‏:‏ يا كافر إليّ، وللمنافق‏:‏ يا منافق إليّ، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أن مصير من أدبر وتولى إليها، فكأنها الداعية لهم، ومثله قول الشاعر‏:‏

ولقد هَبَطْنا الوادِيَيْن فوادياً *** يَدْعو الأنيسَ به العَضيضُ الأبكمُ‏.‏

العضيض الأبكم‏:‏ الذباب، وهو لا يدعو وإنما طنينه ينبه عليه، فدعا إليه‏.‏

الثالث‏:‏ الداعي خزنة جهنم أضيف دعاؤهم إليها، لأنهم يدعون إليها‏.‏

وفي ما ‏{‏أدبر وتولى‏}‏ عنه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أدبر عن الإيمان وتولى إلى الكفر، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أدبر عن أمر اللَّه وتولى عن كتاب اللَّه، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أدبر عن القبول وتولى عن العمل‏.‏

‏{‏وجَمَع فأوْعَى‏}‏ يعني الذي أدبر وتولى جمع المال فأوعى، بأن جعله في وعاء حفظاً له ومنعاً لحق اللَّه منه، قال قتادة‏:‏ فكان جموعاً منوعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً‏}‏ قال الضحاك والكلبي‏:‏ يعني الكافر‏.‏ وفي الهلوع ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه البخيل، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ الحريص، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ الضجور، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ الضعيف، رواه أبو الغياث‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الشديد الجزع، قاله مجاهد‏.‏

السادس‏:‏ أنه الذي قاله الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏إذا مسّه الشرُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قاله ابن ابن عباس‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشر لم يصبر، وهو معنى قول عطية‏.‏

الثاني‏:‏ إذا استغنى منع حق اللَّه وشح، وإذا افتقر سأل وألح، وهو معنى قول يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏الذين هُمْ على صَلاتِهم دائمونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يحافظون على مواقيت الفرض منها، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ يكثرون فعل التطوع منها، قاله ابن جريج‏.‏

الثالث‏:‏ لا يلتفتون فيها، قاله عقبة بن عامر‏.‏

‏{‏والذين هم لأماناتِهم وعَهْدِهم راعُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأمانة ما ائتمنه الناس عليه أن يؤديه إليهم، والعهد‏:‏ ما عاهد الناس عليه أن يَفيَ لهم به، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأمانة الزكاة أن يؤديها، والعهد‏:‏ الجنابة أن يغتسل منها وهو معنى قول الكلبي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الأمانة ما نهي عنه من المحظورات، والعهد ما أمر به من المفروضات‏.‏

‏{‏والذين هُم بشهاداتِهم قائمونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ، وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل، والقيام بها عند الأداء‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه، من معروف يفعلونه ويأمرون به، ومنكر يجتنبونه وينهون عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فما للذين كَفَروا قِبلَكَ مُهْطِعينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مسرعين، قاله الأخفش، قال الشاعر‏:‏

بمكةَ دارُهم ولقد أراهم *** بمكةَ مُهطِعين إلى السماع

الثاني‏:‏ معرضين، قاله عطية العوفي‏.‏

الثالث‏:‏ ناظرين إليك تعجباً، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏عن اليمين وعن الشِّمال عِزِينَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متفرقين، قاله الحسن، قال الراعي‏:‏

أخليفةَ الرحمنِ إن عشيرتي *** أمسى سَراتُهُمُ إليك عِزينا‏.‏

الثاني‏:‏ محتبين، قال مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم الرفقاء والخلطاء، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم الجماعة القليلة، قاله ابن أسلم‏.‏

الخامس‏:‏ أن يكونوا حِلقاً وفرقاً‏.‏

روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق فقال‏:‏ «ما لي أراكم عزين» قال الشاعر‏:‏

ترانا عنده والليل داج *** على أبوابه حِلقاً عِزينا‏.‏

‏{‏يوم يَخْرجون من الأجداثِ سِراعاً‏}‏ يعني من القبور‏.‏

‏{‏كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ في «نصب» قراءتان‏:‏ إحداهما بتسكين الصاد، والأخرى بضمها‏.‏

وفي اختلافهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناهما واحد، قاله المفضل وطائفة، فعلى هذا في تأويله أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه إلى علم يستبقون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إلى غايات يستبقون، قاله أبو العالية‏.‏

الثالث‏:‏ إلى أصنامهم يسرعون، قاله ابن زيد، وقيل إنها حجارة طوال كانوا يعبدونها‏.‏

الرابع‏:‏ إلى صخرة بيت المقدس يسرعون‏.‏

والوجه الثاني من الأصل أن معنى القراءتين مختلف، فعلى هذا في اختلافهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النُّصْب بالتسكين الغاية التي تنصب إليها بصرك، والنُّصُب بالضم واحد الأنصاب، وهي الأصنام، قاله أبو عبيدة ومعنى «يوفضون» يسرعون، والإيفاض الإسراع، ومنه قول رؤبة‏:‏

يمشين بنا الجد على الإيفاض *** بقطع أجواز الفلا انفضاض‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه‏}‏ روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أول نبي أُرسل نوح» قال قتادة‏:‏ بعث من الجزيرة‏.‏

واختلف في سنه حين بعث‏:‏

قال ابن عباس‏:‏ بعث وهو ابن أربعين سنة‏.‏

وقال عبد اللَّه بن شداد‏:‏ بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة‏.‏

وقال إبراهيم بن زيد‏:‏ إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا‏.‏

‏{‏أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني عذاب النار في الآخرة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب الدنيا، وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان، قاله الكلبي، وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، فيقول‏:‏ رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏.‏

‏{‏يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن «من» صلة زائدة، ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ليست صلة، ومعناه يخرجكم من ذنوبكم، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثالث‏:‏ معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى‏}‏ يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم، فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم‏.‏

‏{‏إنّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بأجل اللَّه الذي لا يؤخر يوم القيامة، جعله اللَّه أجلاً للبعث، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر، قاله السدي‏.‏

وفي قوله‏:‏ «لو كنتم تعلمون» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون‏.‏

الثاني‏:‏ لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللَّه إذا جاء لا يؤخر، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 20‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً‏.‏

الثاني‏:‏ دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك‏.‏

‏{‏فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا فراراً من طاعتك‏.‏

الثاني‏:‏ فراراً من إجابتي إلى عبادتك‏.‏

قال قتادة‏:‏ بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح، فيقول لابنه‏:‏ احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذرتك‏.‏

‏{‏وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم‏}‏ يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك‏.‏

‏{‏جعلوا أصابعهم في آذانهم‏}‏ لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه، قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان حليماً صبوراً‏.‏

‏{‏واستغْشَوا ثيابَهم‏}‏ أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم‏.‏

‏{‏وأَصَرُّوا‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إقامتهم على الكفر، قال قتادة‏:‏ قدماً قدماً في معاصي اللَّه لالتهائهم عن مخافة اللَّه حتى جاءهم أمر اللَّه‏.‏

الثاني‏:‏ الإصرار‏:‏ أن يأتي الذنب عمداً، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي‏.‏

‏{‏واستكْبَروا استكباراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك كفرهم باللَّه وتكذيبهم لنوح، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذلك تركهم التوبة، قاله ابن عباس، وقوله «استبكارا» تفخيم‏.‏

‏{‏ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً‏}‏ أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً‏.‏

‏{‏ثم إني أعْلَنْتُ لهم‏}‏ يعني الدعاء، قال مجاهد‏:‏ معناه صِحْتُ‏.‏

‏{‏وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً‏}‏ الدعاء عن بعضهم من بعض، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه دعاهم في وقت سراً، وفي وقت جهراً‏.‏

الثاني‏:‏ دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً، وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء‏.‏

‏{‏فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً‏}‏ وهذا فيه ترغيب في التوبة، وقد روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الاستغفار ممحاة للذنوب»‏.‏

وقال‏:‏ الفضيل‏:‏ يقول العبد استغفر اللَّه، قال‏:‏ وتفسيرها أقلني‏.‏

‏{‏يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً‏}‏ يعني غيثاً متتابعاً، وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة، حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم، فقال ترغيباً في الإيمان‏.‏

‏{‏ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً‏}‏ قال قتادة‏:‏

علم نبي اللَّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا، فقال هلموا إلى طاعة اللَّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة، قاله مجاهد، وعكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ لا تخشون للَّه عقاباً وترجون منه ثواباً، قاله ابن عباس في رواية ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ لا تعرفون للَّه حقه ولا تشكرون له نعمه، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ لا تؤدون للَّه طاعة، قاله ابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ أن الوقار الثبات، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ أي اثبتن، ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه، قال ابن بحر‏:‏ دلهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وقد خلقكم أطواراً‏}‏ في وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني طوراً نطفة، ثم طوراً علقة، ثم طوراً مضغة، ثم طوراً عظماً، ثم كسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر، والقوة والضعف والهم والتصرف، والغنى والفقر‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال‏.‏

‏{‏ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللَّهُ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن سبع سموات على سبع أرضين، بين كل سماء وأرض خلق، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض، كالقباب، وهذا قول السدي‏.‏

‏{‏وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض، قاله عطاء‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ وجهه يضيء لأهل الأرض، وظهره يضيء لأهل السماء‏.‏

‏{‏وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً‏}‏ يعني مصباحاً لأهل الأرض، وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان‏.‏

‏{‏واللَّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها، قاله ابن جريج، وقال خالد بن معدان‏:‏ خلق الإنسان من طين، فإنما تلين القلوب في الشتاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها، وهو محتمل‏.‏

‏{‏ثم يُعيدُكم فيها‏}‏ يعني أمواتاً في القبور‏.‏

‏{‏ويُخْرِجُكم إخراجاً‏}‏ لنشور بالبعث‏.‏

‏{‏واللَّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً‏}‏ أي مبسوطة، وفيه دليل على أنها مبسوطة‏.‏

‏{‏لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ طرقاً مختلفة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ طرقاً واسعة، قاله ابن كامل‏.‏

الثالث‏:‏ طرقاًً أعلاماً، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ لبث فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم، وهم على كفرهم وعصيانهم، قال ابن عباس‏:‏

رجا نوح الأبناء بعد الآباء، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، حتى كثر الناس وفشوا‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين‏.‏

‏{‏واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً‏}‏ قرئ ولده بفتح الواو وضمها، وفيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد، والولد بالفتح واحد منهم، قاله الأعمش، قال الربيع بن زياد‏:‏

وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً *** فإني لم أكُنْ مّمن جَناها

ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها *** وحَشّوا نارها لمن اصطلاها

‏{‏ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً‏}‏ أي عظيماً، والكبّار أشد مبالغة من كبير‏.‏

وفيه وجهان، أحدهما‏:‏ ما جعلوه للَّه من الصاحبة والولد، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ هو قول كبرائهم لأتباعهم‏:‏ ‏{‏وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً‏}‏ الآية، قاله مقاتل‏.‏

وفي هذه الأصنام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام‏:‏ كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم، قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً، ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح‏.‏

واختلف في هذه الأسماء، فقال عروة بن الزبير‏:‏ اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، وقال غيره‏:‏ إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح، فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً، فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا، ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم، فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، ثم عبدها من بعدهم قوم نوح، ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل‏.‏

فأما ود فهو أول صنم معبود، سمي بذلك لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم‏:‏

حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا *** لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا‏.‏

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، في قولهم، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة، وقال مقاتل‏:‏ حي من نجران‏.‏

قال أبو عثمان النهدي‏:‏ رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد، ويسيرون معه لا يهيجونه، حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا‏:‏ قد رضي لكم المنزل، فيضربون عليه بناء وينزلون حوله‏.‏

وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع، في قول قتادة وعكرمة وعطاء‏.‏

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل‏.‏

‏{‏وقد أَضَلّوُا كثيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه‏.‏

الثاني‏:‏ أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم‏.‏

‏{‏ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا عذاباً، قاله ابن بحر واستشهد بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 47‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ إلا فتنة بالمال والولد، وهو محتمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا‏}‏ اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لما نزلت عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ دعا عليهم بهذا الدعاء، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه، فمر بنوح، فقال لابنه‏:‏

إحذر هذا فإنه يضلك فقال‏:‏ يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ، فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم‏.‏

وفي قوله ‏{‏ديّاراً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أحداً، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ من يسكن الديار، قاله السدي‏.‏

‏{‏ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد أباه، واسمه لمك، وأمه واسمها منجل، وكانا مؤمنين، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد أباه وجده، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني صديقي الداخل إلى منزلي، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من دخل مسجدي، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ من دخل في ديني، قاله جويبر‏.‏

‏{‏وللمؤمنين والمؤمنات‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد من قومه‏.‏

الثاني‏:‏ من جميع الخلق إلى قيام الساعة، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏ولا تَزِدِ الظالمينَ‏}‏ يعني الكافرين‏.‏

‏{‏إلا تباراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هلاكاً‏.‏

الثاني‏:‏ خساراً، حكاهما السدي‏.‏

سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ‏}‏ اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏، قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا، فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب، قال السدي‏:‏ ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر، قال‏:‏ فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا‏:‏ هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو‏:‏ ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء، وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً‏.‏

وفزعت الجن والشياطين، ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم، فقال‏:‏ ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال‏:‏ صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن‏.‏‏.‏

وفي رواية ابن عباس‏:‏ أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا‏:‏ ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ففعلوا حتى أتوا تهامة، فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ‏.‏ ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب، هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا‏؟‏

فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي‏؟‏ فسكتوا، ثم الثانية فسكتوا، ثم الثالثة، فقال ابن مسعود أنا أذهب معك، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب، فخط عليَّ خطاً ثم قال‏:‏ لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره» قال عكرمة‏:‏ وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل‏.‏

ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها‏.‏

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىلجن ولا رآهم، وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ، فأتوه وهو بنخلة عامداً، إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا‏:‏ هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء‏.‏

قال عكرمة‏:‏ السورة التي كان يقرؤها ‏{‏اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ واختلف قائلوا هذا القول في عددهم، فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة، أحدهم زوبعة، أتوه في بطن نخلة‏.‏

وروى ابن جريج عن مجاهد‏:‏ أنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم‏:‏ حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم‏.‏

وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق، وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان، وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً، وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه‏:‏ ‏{‏فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به‏}‏‏.‏

وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم‏.‏

واختلف في أصل الجن، فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون، ومنهم المؤمن والكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس‏.‏

أصلهم، فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يدخلونها وهو قول الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ وهو رواية مجاهد، لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عجباً في فصاحة كلامه‏.‏

الثاني‏:‏ عجباً في بلاغة مواعظة‏.‏

الثالث‏:‏ عجباً في عظم بركته‏.‏

‏{‏يَهْدِي إلى الرُّشْدِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مراشد الأمور‏.‏

الثاني‏:‏ إلى معرفة اللَّه‏.‏

‏{‏وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا‏}‏ فيه عشرة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أمر ربنا، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ فعل ربنا، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ ذكر ربنا، وهو قول مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ غنى ربنا، قاله عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ بلاء ربنا، قاله الحسن‏.‏

السادس‏:‏ مُلك ربنا وسلطانه، قاله أبو عبيدة‏.‏

السابع‏:‏ جلال ربنا وعظمته، قاله قتادة‏.‏

الثامن‏:‏ نعم ربنا على خلقه، رواه الضحاك‏.‏

التاسع‏:‏ تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا، قاله سعيد بن جبير‏.‏

العاشر‏:‏ أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من قول الجن عن ‏[‏جهالة‏]‏‏.‏

‏{‏وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جاهلنا وهم العصاة منا، قال قتادة‏:‏ عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إبليس، قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن قوله‏:‏ «شططاً» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جوراً، وهو قول أبي مالك‏.‏

الثاني‏:‏ كذباً، قاله الكلبي، وأصل الشطط البعد، فعبر به عن الجور لبعده من العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق‏.‏

‏{‏وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال‏:‏ إني أعوذ بكبير هذا الوادي- يعني من الجن- من سفهاء قومه، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم، وهو معنى قوله‏:‏ «وأنه كان رجال»‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَزَادُوهم رَهقاً‏}‏ ثمانية تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ طغياناً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ إثماً، قاله ابن عباس وقتادة، قال الأعشى‏:‏

لا شئ ينفعني مِن دُون رؤيتها *** هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً‏.‏

يعني إثماً‏.‏

الثالث‏:‏ خوفاً، قاله أبو العالية والربيع وابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ كفراً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الخامس‏:‏ أذى، قاله السدي‏.‏

السادس‏:‏ غيّاً، قاله مقاتل‏.‏

السابع‏:‏ عظمة، قاله الكلبي‏.‏

الثامن‏:‏ سفهاً، حكاه ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وأنا لَمسْنا السّماءَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ طلبنا السماءَ، والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق‏.‏

الثاني‏:‏ قاربنا السماء، فإن الملموس مقارَب‏.‏

‏{‏فوَجدْناها‏}‏ أي طرقها‏.‏

‏{‏مُلئتْ حَرَساً شديداً‏}‏ هم الملائكة الغلاظ الشداد‏.‏

‏{‏وشُهُباً‏}‏ جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع، واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت تنقض في الجاهلية، وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله، قال أوس بن حجر، وهو جاهلي‏:‏

فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ *** نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً

وهذا قول الأكثرين‏.‏

الثاني‏:‏ أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده، قال الجاحظ‏:‏ وكل شعر روي فيه فهو مصنوع‏.‏

‏{‏وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ‏}‏ يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم، فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذٍ‏:‏

‏{‏فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً‏}‏ يعني بالشهاب الكوكب المحرق، والرصد من الملائكة‏.‏

أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه، لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل‏.‏

‏{‏وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً، أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً، وهذا معنى قول السدي وابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وأنّا مِنّا الصّالحونَ‏}‏ يعني المؤمنين‏.‏

‏{‏ومنّا دون ذلك‏}‏ يعني المشركين‏.‏

ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير، وب «دون ذلك» أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج، وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم‏.‏

‏{‏كُنّا طَرائقِ قِدَداً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني فِرقاً شتى، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أدياناً مختلفة، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أهواء متباينة، ومنه قول الراعي‏:‏

القابض الباسط الهادي بطاعته *** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ

‏{‏وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به‏}‏ يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته، وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس‏.‏

قال الحسن‏:‏ بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى‏}‏‏.‏

‏{‏فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏

لا يخاف نقصاً في حسناته، ولا زيادة في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق‏:‏ العدوان، وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم، وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال‏:‏ بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل، فقيل له‏:‏ أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ ومن هو‏؟‏ قالوا‏:‏ سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف، وكان له رئيّ من الجن، فأرسل إليه عمر فقال له‏:‏ أنت سواد بن قارب‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك‏؟‏ قال‏:‏ نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال‏:‏ قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول‏:‏

عجبْتُ للجنّ وتطلابها *** وشدِّها العِيسَ بأذْنابها‏.‏

تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى *** ما صادقُ الجن ككذّابها‏.‏

فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ *** فليس قد أتاها كاذباً بها‏.‏

فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً، ولم أرفع بما قاله رأساً، فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، وقال‏:‏ قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول‏:‏

عجبْتُ للجنّ وتخيارها *** وشدِّها العيس بأكوارها‏.‏

تهوي إلى مكة تبغي الهدي *** ما مؤمن الجن ككفّارِها

فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ *** ما بين رابيها وأحجارها‏.‏

فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً، ولم أرفع بما قال رأساً، فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله، وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول‏:‏

عجبت للجن وتحساسها *** وشدِّها العيسَ بأحْلاسها‏.‏

تهوي إلى مكة تبغي الهُدي *** ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها‏.‏

فارحلْ إلى الصفوة من هاشم *** واسم بيديْك إلى رأسها‏.‏

قال‏:‏ فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام، فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه، قال‏:‏ هات، فأنشأت أقول‏:‏

أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ *** ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ

ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ *** أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب

فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت *** بي الذملُ الوجناء بين السباسِب

فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ *** وأنك مأمولٌ على كل غالبِ‏.‏

وأنك أدني المرسلين وسيلةً *** إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب‏.‏

فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى *** وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب‏.‏

وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ *** سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب‏.‏

ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً، حتى رئي الفرح في وجوههم، قال‏:‏ فوثب عمر فالتزمه وقال‏:‏ قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث، فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏أما‏]‏ وقد قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن‏.‏

‏{‏وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ‏}‏ وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر، والقاسط‏:‏ الجائر، لأنه عادل عن الحق، ونظيره الترِب والمُتْرِب، فالترِب الفقير، لأن ذهاب ماله أقعده على التراب، والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب‏.‏

وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الخاسرون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الفاجرون، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ الناكثون، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول‏.‏

وفي هذه الاستقامة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة، قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما‏.‏

الثاني‏:‏ الاستقامة على الهدى والطاعة، قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله ‏{‏لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق، وهذا قول محمد بن كعب‏.‏

الثاني‏:‏ لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم‏.‏

‏{‏لِنَفْتِنَهم فيه‏}‏ فيكون زيادة في البلوى، حكى السدي عن عمر في قوله «لأسقيناهم ماء غدقاً» أنه قال‏:‏ حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ افتننان أنفسهم‏.‏

الثاني‏:‏ وقوع الفتنة والشر من أجله‏.‏

وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله «لأسقيناهم ماءً غدقاً» أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لهديناهم الصراط المستقيم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لأوسعنا عليهم في الدنيا، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ لأعطيناهم عيشاً رغداً، قاله أبو العالية‏.‏

الرابع‏:‏ أنه المال الواسع، لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع، قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد‏.‏

وفي الغدق وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العذب المعين، قاله ابن عباس، قاله أمية بن أبي الصلت‏:‏

مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ *** عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ

الثاني‏:‏ أنه الواسع الكثير، قاله مجاهد، ومنه قول كثير‏:‏

وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته *** فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ‏.‏

لتروى به سُعدى ويروى محلّها *** وتغْدقَ أعداد به ومشارب

فعلى هذا فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إخبار عن حالهم في الدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه‏.‏

فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ افتتان أنفسهم بزينة الدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال‏.‏

الثالث‏:‏ وقوع العذاب بهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم هم على النار يُفْتًنون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏ أي يعذبون‏.‏

وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين‏.‏

وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لنختبرهم به، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ لنطهرهم من دنس الكفر‏.‏

الثالث‏:‏ لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب‏.‏

فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لنخلصهم وننجيهم، مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وفَتَنّاك فُتوناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏ أي خلصناك من فرعون‏.‏ الثاني‏:‏ معناه لنصرفنهم عن النار، كما قال تعالى ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏ أي ليصرفونك ‏{‏ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن القبول، إن قيل إنها من أهل الكفر‏.‏

الثاني‏:‏ عن العمل، إن قيل إنها من المؤمنين‏.‏

‏{‏يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جب في النار، قاله أبو سعيد‏.‏

الثاني‏:‏ جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت، وإذا رفعها عادت، وهو مأثور، وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ أنه مشقة من العذاب يتصعد، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وأنَّ المساجدَ للَّهِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الصلوات للَّه، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه، قاله الربيع‏.‏

الثالث‏:‏ أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه كل موضع صلى فيه الإنسان، فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً‏.‏

‏{‏فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً‏}‏ أي فلا تعبدوا معه غيره، وفي سببه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما حكاه الأعمش أن الجن قالت‏:‏ يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك، فنزلت هذه الآية‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت‏:‏ لبيّك اللهم لبيّك، لبيّك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً، وروى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال‏:‏ «وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً» اللهم أنا عبدك وزائرك، وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار «وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال‏:‏» اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً «‏.‏

‏{‏وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه‏}‏ يعني محمداً، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها، وقام أصحابه خلفه مؤتمين، فعجبت الجن من طواعية أصحابه له، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه، رواه ابن جريج‏.‏

‏{‏كادوا يكونون عليه لِبَداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أعواناً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ جماعات بعضها فوق بعض، وهو معنى قول مجاهد، ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض، وقال ذو الرمة‏:‏

ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ *** خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ‏.‏

وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته، قاله الزبير بن العوام‏.‏ الثالث‏:‏ أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك، قاله قتادة‏.‏

‏{‏قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً‏}‏ يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عذاباً ولا نعيماً‏.‏

الثاني‏:‏ موتاً ولا حياة‏.‏

الثالث‏:‏ ضلالاً ولا هدى‏.‏

‏{‏قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ‏}‏ روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال‏:‏ انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان‏:‏ أنا أزجلهم عنك، فقال‏:‏

«إني لن يجيرني من اللَّه أحد»

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد‏.‏

الثاني‏:‏ لن يجيرني مما قدره الله علي أحد‏.‏

‏{‏ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ملجأ ولا حرزاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ولياً ولا مولى، رواه أبو سعيد‏.‏

الثالث‏:‏ مذهباً ولا مسلكاً، حكاه ابن شَجرة، ومنه قول الشاعر‏:‏

يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ *** عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ‏.‏

‏{‏إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه، قاله مقاتل‏.‏

روى مكحول عن ابن مسعود‏:‏ أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر‏.‏